قالوا عنها ثورة الجياع وثورة البطالة ثم قالوا ثورة الكبت الديني وكبت الحريات...ومن قبلهم بعشرات العقود أطلق عالم النفس الأمريكي أبراهام ماسلو مثلثه الشهير للاحتياجات الإنسان الغريزية، فوضع في قمة الهرم إشباع الذات البشرية والمرتبة التي تحتها التعبير عن الذات وقبلها غريزة الانتماء بعد الحاجة للأمن والمأوى والدفء وفي أسفل الهرم الاحتياجات البدنية من جوع وعطش وصحة.ولقد عملت كثير من الأنظمة بمبدأ ماسلو فأرهقت الشعوب تحت وطأة تأمين لقمة العيش وشربة الماء وتحصيل الدواء حتى لا يحلم المواطن بما بعد ذلك من أمن مفقود هو أصلاً ولا مأوى ولا دفء،
حتى لا يحلم بمحاولة الانتماء أو التعبير عن الذات ناهيك عن إشباعها...ونامت ظناً منها أن هذه الشعوب لن تجرئ على مجرد الحلم بالحرية والديمقراطية . جاءت الشرارة الأولى من تونس الخضراء لتشعل ثورة امتدت إلى أرض الكنانة أسقطت كل هذه الأطروحات والنظريات وقلبت كل الموازين العالمية والتاريخية ،وأيقظت الحكام من سباتهم العميق، وأعادت لأذهان مهندسي الشعوب ومن يسمون أنفسهم بالعقلاء والحكماء فكرة أن هذه الشعوب العربية الإسلامية هي شعوب ولدت من رحم حضارة إنسانية وأكرم بني البشر رحمة ومدنية في حربهم قبل سلمهم.
الدروس والعبر كثيرة وعديدة التي يمكن استخلاصها من ثورة السواعد السمراء الشابة وسيكتب التاريخ المجلدات عنها لأنها ثورة تفوق كل الثورات العالمية كالفرنسية والروسية وتتميز عنهما بنواحي كثيرة وعديدة،ورغم عدم اكتمال الثورة بعد، لكن يكفيها فخراً أنها نزعت مهابة الطاغية من قلوب الناس وأعادت الكرامة للشعوب المقهورة،والأهم أنها انتشلت النخب الفكرية والمعارضة على كل توجهاتها و أطيافها والشعوب العربية من قاع بئر اليأس والقنوط والإحباط .لقد وصلت كثير من النخب العربية بكل شرائحها وطبقاتها الفكرية الإسلامية والقومية لنقطة مخيفة من الإحباط الكبير والشعور باليأس والقنوط وفقدان الأمل والاستسلام للواقع المهين ،دفعت هذه الحالة النفسية من اليأس والقنوط والإحباط كثير من النخب لمراجعات لأطروحاتها وتردد وتناقض في مواقفها وتخبط في مشاريعها وخطاباتها الفكرية والسياسية،مما دفعها إلى مواقف غير صحية من استجداء للحاكم ليمنحهم الشرعية والحرية فكان الارتماء في أحضان الحاكم أو الغرب المحصلة النهائية لهذا التردي النفسي والفكري. بجانب هذا الإحباط الفكري للنخب كان كثير من العلماء يعملون جاهدين وتحت مسميات إطاعة ولي الأمر والاستقرار والمصلحة الوطنية العليا وخشية الفوضى والعقلانية ومعرفة الواقع وموازين القوى العالمية وتحت مسميات أخرى كانوا يعملون مدركين أم غير مدركين على تثبيط الهمم وتخويف الشعوب ونزع روح الأمل والشجاعة من أنفس الشباب ليقتنع بالواقع الذي يعيشه وكأنه القدر المحتوم ويستحيل تغييره.
أما المعارضات العربية بكل اتجاهاتها هي الأخرى سقطت في هذا السباق الشبابي لأنها شاخت وهرمت مثل الأنظمة الحاكمة وأصبحت تشبهها في تفكيرها وتمسكها بمقاعدها القيادية من برجها العاجي، وكتمها للأصوات المخالفة وخاصة الشابة منها، وتقديرها الخاطئ لكثير من الأمور حيث جاءت مواقفها مترددة ومتأخرة أحياناً كثيرة، ونالها ما نال النخب من انتكاسات فكرية وقنوط ويأس فهي تطلب الحرية من قاتليها وكادت تقضي على الثورة في مخاضها العسير عندما رضيت بأنصاف الحلول وقبول التعامل مع بعض الرموز التي لفظها الشارع وهذا ناتج لما يسيطر على عقولها من خوف ورعب ولم تستوعب شعارات ميدان الحرية بعد وأن الحرية والحقوق تؤخذ ولا تمنح من أحد.
أمر آخر هو مؤلم جداً وكتبت عنه في مقالات سابقة من حرقة النفس قبل أشهر وهو ما ابتليت به الأمة العربية من حملة أقلام وكتاب وأكاديميين ومحللين سياسيين وصناع قرار لا يحملون الهوية العربية التي تفتخر بماضيها المجيد،ولا يعتزون بتاريخ الأجداد الذين سطروا للتاريخ أنصع صور العدل والحرية واحترام الإنسان الآخر،تربوا وعاشوا على الأفكار الغربية والثقافة الأوربية ولم يشعروا يوما واحداً بوجدان الشعب ولم يحسوا بأحاسيسه ولم يثقوا بقدرات هذه الشعوب التي انسلخوا عنها، في قلوبهم مرض ،همهم الوحيد ترديد ما يكتبه أسيادهم مدعين أن الشعوب العربية ليست مؤهلة للديمقراطية متذرعين بارتفاع نسبة الأُمية تارة وبالوضع الاقتصادي ووجود إسرائيل تارة أُخرى ، فلا هم سعوا لتطبيق مبادئ الغرب التي يدٌعون أنهم حماتها من ديمقراطية واحترام حقوق الإنسان ،ولا هم حاربوا موانع تطبيق الديمقراطية ولا هم تركوا الشعوب تمارس حقها الطبيعي علها تتعلم الحياة في جو الديمقراطية كما يدعون المناداة به، هؤلاء هم العثرة أمام تقدم الشعوب العربية ونهوض الأمة وتأخر هذه الثورات الشبابية.
أما نظرية المؤامرة - التي لا يمكن إنكارها- فقد سيطرت على عقول أغلب النخب والمعارضة و لم يسلم منها حتى دعاة التحرر والتغيير ،هذه النظرية زرعت في النفوس القنوط والاستسلام و أوصلتهم لمرحلة اليأس والعجز والتسليم وفقدان الحيلة وتضخيم هذا البعبع دفع الكثير من المعارضة القبول- الضمني على الأقل وإن لم تتعامل معه- بأن أي خطوة تجاه الإصلاح والخلاص من الواقع الحالي لا يمكن أن يكتب النجاح إلا بالموافقة والمباركة الأمريكية،ودفعت ببعض المعارضة بالقبول بركوب الدبابات الأمريكية لتخريب بلادها بحجة الإصلاح وجلب الحرية وإرساء الديمقراطية. لقد كان تخبط التصريحات والتردد في تحديد المواقف والترقب أكبر دليل على عدم قدرة الاستخبارات الأمريكية والأوربية وكل المراكز الإستراتيجية توقع نبض الشارع بل أن التاريخ القريب أثبت بما لا يحمل الشك فشلهم في كل التوقعات والأحداث التي مرت في السنين الأخيرة.
جاءت ثورة شباب الفيسبوك و التويتر والإنترنت العفوية الذاتية لتقلب كل الموازين والنظريات السابقة الذكر لتبعث روح الأمل من جديد وتنتزع كرامتها وحريتها بأيديها وعزمها وثباتها، وترسي قيم ومبادئ جديدة جعلت كل الشعوب في كل أنحاء العالم تقف إجلالاً واحتراماً لهذه الثورة السلمية التي عجزت شعوب العالم في التاريخ الحاضر أن تأتي بمثلها،خرجت الشعوب بكل أطيافها وتوجهاتها الفكرية والسياسية والدينية ،الفقير والغني،الأمي والمثقف،المسلم والمسيحي والشيوعي خرجت كلها سلمية تنادي بالحرية والديمقراطية، التظاهرات العفوية والقرارات السريعة من قبل هؤلاء المنظمين الشباب، حماية الممتلكات العامة والخاصة وتشكيل طوق أمني لحماية المتحف الوطني أكبر دليل على نضوج الإنسان العربي ورقيه وفهمه لقيمة الوطن والمواطن وأكبر صفعة لكل من كان يتهمه بعدم النضوج الفكري والديمقراطي ويطالبه بالانتظار سنين وعقود ليصل مرحلة النضج المزعومة من قبل أعداء الشعب والديمقراطية.عندما يحمي المسيحي ظهر المسلم في صلاته ويقام القداس بجانب الصلاة، عدم المساس بأي كنيسة رغم الفلاتان الأمني أكبر دليل على درجة الرقي التي تتمتع بها هذه الشعوب. حتى في شعاراتها كانت مهذبة و نظيفة لأنها لم تطالب بالانتقام والثأر ولم نسمع من يطالب بسفك الدماء رغم الاستفزاز الحاصل والظلم الذي عاشته الشعوب على مر العقود والهجوم عليها بالبغال والجمال فلم تسعى الجماهير المحتشدة بأي محاولة للتشفي،وبل ولم تحرق علماً لأي دولة تدعم تلك الأنظمة . وأتحدى أن تكون ثورة بالماضي أو الحاضر أو المستقبل بنزاهة ومدنية ثورة هؤلاء الشباب .ذكاء الشباب وحسم الموقف والرد على محاولات الاختراق والالتفاف عليها من قبل النظام ،هذه الردود الفورية بالشعارات حمت الثورة في كثير من المنعطفات الحرجة والمفاصل الخطرة،استعجال المثقفين والمعارضة ومن سموا أنفسهم بالحكماء اقتراح سليمان رجل المرحلة الانتقالية ومحاولة تحويل الثورة إلى إصلاح من داخل النظام كاد أن يقزم الثورة و يدفنها قبل ولادتها لكن الجماهير التي سبقت النخب والمعارضة في كل خطوة كانت هي صاحبة العقل الراجح والنظرة الثاقبة .هذا درس للمعارضة والنخب القيادية قبل الأنظمة يجب أن تفهمه وتستوعبه.
نعم كانت ثورة جياع ولكن ليست ثورة للنهب والسلب وليس ما أخرج الفقراء لقمة العيش بل عشق الحرية والرغبة في التخلص من هذا الكابوس فالجميع خرج الغني قبل الفقير.
نعم كانت ثورة كبت الحريات ولكن ليس لإقصاء الآخر ونبذه بل للمناداة للعيش المشترك..لم يطلبوا الثأر والانتقام أبداً
نعم كانت ثورة كبت الدين ولكن ليس لتكفير الآخر ونبذ الديانات الأخرى ولا حتى من لا دين له بل ليحمي المسيحي المسلم ويقف الشيوعي مع المسلم في ميدان واحد.
إنها قمة المدنية والرقي و الحضارة الإنسانية ....هذا ما قرأناه في كتب التاريخ عن أجدادنا وكنا نتوق له
وهذا ما نعيشه ونراه في حاضرنا بفضل الأحفاد....
د.مصطفى حميدأوغلو
Cette adresse email est protégée contre les robots des spammeurs, vous devez activer Javascript pour la voir.
< Préc | Suivant > |
---|